فصل: تفسير الآيات (77- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (75):

{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)}
قلت: {ما} مبتدأ. و{لكم} خبر. و{لا تقاتلون} حال، و{المستضعفين} عطف على اسم الجلالة، أي: أيَ شيء حصل لكم حال كونكم غير مجاهدين في سبيل الله وفي تخليص المستضعفين؟ و{الظالم} نعت للقرية، وإنما ذُكَّر ولم يؤنث، لأنه أسند إلى المذكر، واسم الفاعل إذا جرى على غير مَن هُوَ لَهُ أجرى مجرى الفعل، فيذكر ويؤنث باعتبار الفاعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما لكم} يا معشر المسلمين {لا تقاتلون في سبيل الله}، وفي تخليص إخوانكم {المستضعفين} بمكة، الذين حبسهم العدو أو أسرهم ومنعهم من الهجرة؛ {من الرجال والنساء والولدان}، فهم في أيديهم مغللون ممتحنون. قال البيضاوي: وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيهًا على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء، حتى تشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. اهـ.
ثم ذكر دعاءهم فقال: {الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية} أي: مكة {الظالم أهلها} بالشرك والطغيان حتى تعدى إلى النساء والصبيان. {واجعل لنا من لدنك وليًّا} يصوننا عن أذاهم، {ونصيرًا} يمنعنا من التخلف عن الهجرة إلى رسولك صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءهم بأن يسَّر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم أعظم ولي وناصر، بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ونصرهم، واستعمل عليهم عتَّاب بن أسيد، فحماهم وأعزهم حتى صارو أعزاء أهلها، كما هي عادته سبحانه في إجابة دعاء المضطرين.
الإشارة: ما لكم يا معشر العِباد، وخصوصًا المريدين من أهل الجد والاجتهاد، لا تجاهدون نفوسكم في طريق الوصول إلى الله، كي تنالوا بذلك مشاهدة جماله وسناه، وتخلصوا ما كمن في نفوسكم من الأسرار، وما احتوت عليه من العلوم والأنوار. فإن قرية البشرية قد احتوت عليها وأسرتها بظلمات شهواتها، واستضعفتها بتراكم غفلتها وتكثيف حجاب حسها. فمن جاهدها استخلص جواهر تلك العلوم والأسرار مِن صَدَفِها. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه:
ولم تزل كُلُّ النُّفُوسِ الأحيا ** عَلاَّمة درَّاكة للأشيَا

وإنما تَعُوقُها الأبدَان ** والأنفس النزع والشَّيطَان

فكلُّ مَن أذَاقَضهم جهادَه ** أظهرَ للقاعد خَرقَ العاده

وقال أيضًا:
وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون ** كما يكون الحَبُّ في الغُصُون

فالرجال: الأسرار والأنوار، والنساء: العلوم والأذكار، والولدان: الحكم بنات الأفكار. فكل هؤلاء مستضعفون تحت قهر البشرية الظالم أهلها. ومن الأنفس النزع والشياطين المغوية، فكل من جاهد هؤلاء القواطع أظهر تلك العلوم والأنوار السواطع، واستخلص رُوحه من أسر حجاب الأكوان، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (76):

{الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: في مدح المخلصين: {الذين آمنوا يُقاتلون في سبيل الله}، وابتغاء مرضات الله، وإعلاء كلمة الله، {والذين كفروا}، من أهل مكة وغيرهم، {يُقاتلون في سبيل الطاغوت} وهو الشيطان، {فقاتلوا} يا أولياء الله {أولياء الشيطان} ولا يهولكم كيده؛ {إن كيد الشيطان كان ضعيفًا}، وكيد الله للكافرين كان قويًا متينًا، فلا تخافوا أولياءه، فأنهم اعتمدوا على أضعف شيء وأوهنه، وأنتم اعتمدتم على أقوى شيء وأمتَنِه.
الإشارة: كل ما سوى الله طاغوت، فمن قصد بجهاده أو عمله رضى الله والوصول إلى حضرته دون شيء سواه، كان من أولياء الله، ومن قصد بجهاده أو أعماله حظًا دنيويًا أو أخرويًا خرج من دائرة الولاية، فإما أن يكون مع عامة أهل الإيمان، أو من أولياء الشيطان. قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمَالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ مَا نَوَى، فمن كانَت هجرَتُه إلى الله ورسولِه فهجرتُه إلى اللهْ ورسولِه، ومن كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبهُا أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هَاجَرَ إليه».
وقال في الحِكَم: (لا ترحل من كَونٍ إلى كَونٍ، فتكون كحمار الرحى، يسير والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه، ولكن أرحل من الأكوانِ إلى المُكَوِّنِ، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النُجُم: 42]).

.تفسير الآيات (77- 80):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}
قلت: {أو أشد} عطف على الكاف النائبة عن المصدر، أي: خشيةً مثل خشية الله أو أشد، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: مثل خشيتهم الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم تر} يا محمد {إلى الذين} طلبوا منك فرضَ الجهاد حرصًا على أن يجاهدوا، فقيل لهم على لسان الرسل: {كُفّوا أيديكم} عنه إلى أوَانِ فَرضِه، واشتغلوا بما أُمِرتم به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، {فلما كُتب عليهم القتال} دخلهم الخوف {إذا فريق منهم يخشون الناس} أي: الكفار، أن يقتلوهم مثل خشية عقاب {الله} أو أشد خشية منه. {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال} في هذا الوقت {لولا}: هلاّ {أخّرتنا إلى أجل قريب} نتمتع فيه بحياتنا أو إلى أن نموت بآجالنا. قلت: والظاهر أنهم قالوا ذلك في نفوسهم، خواطر خطرت لهم، ولم يفوهوا به، إن نزلت في الصحابة رضي الله عنهم، وإن كانت في المنافقين فيمكن أن ينطقوا بها.
{قل متاع الدنيا قليل} وعيشها ذليل، وأجلها قريب، {والآخرة خير لمن اتقى}، وحياتها خير وأبقى، وسَتَقدُمون على مولاكم، فيكرم مثواكم، ويوفيكم جزاء أعمالكم، {ولا تظلمون فتيلاً} من ثواب أعمالكم، ولا تنقصون من أيام أعماركم، جاهدتم أو قعدتم.
{أينما تكونوا يدرككم الموت} عند انقضاء آجالكم، {ولو كنتم في بروج مشيدة} عالية محصنة. فإن كان الموت لابد منه ففي الجهاد أفضل، لأنه حياة لا موتَ بعده. قال الكلبي: نزلت في قوم من الصحابة، منهم: عبد الرحمن بن عوف، والمِقدادُ وقٌدامة بن مَظعون وغيرهم، كانوا يُؤذَونَ بمكة، ويستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيقول لهم: كفوا أيديكم حتى يُؤذن فيه لكم، فلما هاجروا إلى المدينة وأُمروا به، كرهه بعضهم كراهية الطبع البشري، فخطر ببالهم شيءٌ مما حكى الله عنهم. فلما كانوا في عين العناية ومحل القرب والهداية عوقبوا على تلك الخواطر، ولو كان غيرهم من أهل البُعد لسُومح له في ذلك، وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين أُمروا بالجهاد فنافقوا من الجُبن، وتخلفوا عن الجهاد، وهذا أليق بما بعده من قوله: {إن تصبهم حسنة}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم، فإذا أُمِروا بذلك، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس، وأمروا بالصبر على المكاره، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار، جبنوا وكلَّوا ورجعوا القهقرى، فيقال لهم: متاعُ الدنيا قليل وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، وما تنالون من الله في جزاء مجاهدتكم خيرٌ وأبقى، ولا تُظلمون فتيلاً من مجاهدتكم لنفوسكم، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم، فلما جبُنتُم ورجعتم، كان جزاؤكم الحرمان، عما ظفر به أهل العرفان.
وفي مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا ** بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا

رضوا بالأماني وابُتُلوا بحظُوظهم ** وخاضوا بحارَ الحبّ دعوى فما ابتلّوا

فهُم في السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم ** وما ظَعَنوا في السير عنه وقد كلَّوا

ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم، فقال: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: في وصف أهل النفاق: وإنهم إن {تصبهم حسنة} كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة، قالو: {هذه من عند الله}، ونسبوها إلى الله بلا واسطة، {وإن تصبهم سيئة} كقحط وجوع وموت وقتل، قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: {هذه من عندك} بشؤم قدومك أنت وأصحابك، كما قالت اليهود لعنهم الله: منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها.
قلت: بل زكت ثمارها، ورخصت أسعارها، وأشرقت أنوارها، ولاحت أسرارها، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة، وأضعاف ذلك، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم؛ فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام: {قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النَّمل: 47]، وقال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيَّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131]، {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قّدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فُصّلَت: 43]. قال تعالى مكذبًا لهم: {قل كلٌّ من عند الله}؛ الحسنة بفضله، والسيئة بعدله. ثم عيرهم بالجهل فقال: {فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا}؛ فهُم كالبهائم أو أضل سبيلاً، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله، وأنه خالق كل شيء، المقدَّر لكل شيء.
ثم علَّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا وساطة، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا، فقال: {ما أصابك من حسنة} أي: نعمة {فمن الله} فضلاً وإحسانًا، وأما طاعة العبد فلا تفي بشكر نعمة واحدة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعملهِ»، قيل: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: «ولا أنَا، إلا أن يتَغمدني الله برَحمته» {وما أصابك} أيها الإنسان {من سيئة} أي: بلية {فمن نفسك} أي: شؤم ذنبك، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مَا مِن خَدشٍ بعُود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب، وما يَعفوا الله عنه أكثرُ» فلا ينافي قوله: {قل كلٌّ من عند الله}؛ فإن الكل منه إيجاداً واختراعًا، غير أن الحسنة إحسانٌ، والسيئة مُجَازاة وانتقام. كما قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه وَصَبٌ ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يُشَاكها، وحتى انقطاع شِسع نَعلهِ، إلا بذنب، وما يعفوا الله عنه أكثر».
وفي مصحف ابن مسعود: (قالوا: {ما أصابك من حسنة فمن الله}) الآية. فتكون حينئٍذ من مقالة المنافقين، والآيتان كما ترى لا حجة فيها للمعتزلة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ثلاث خصال لا ينجو منها إلا القليل كما في الحديث: الطيرة، والحسد، والظن. فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا تَطَيَّرتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق» فيتأكد على المريد أن يتطهر من هذه الخصال، ويصفي مشربه من التوحيد، فلا يرى في الوجود إلا مولاه، ولا ينسب التأثير إلى شيء سواه، إذا رأى نعمة به أو بغيره، قال: من الله، وإذا رأى مصيبة كذلك تأدب مع الله، فيعتقد في قلبه أنها من قَدَرِ الله، يقول: {قل كلٌّ من عند الله}، وينسب النقص إلى نفسه وهواه، فالنفس والشيطان مناديل الحضرة، تمسح فيهما أوساخ الأقدار، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} [القَصَص: 68]. والله تعالى أعلم.
تم شَهِدَ جلّ جلاله لرسوله بالرسالة، تحريضًا على تعظيمه وحثًا على طاعته، وترهيبًا من سوء الأدب معه، كما صدر من المنافقين، فقال: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}
قلت: إن تعلق الجار بالفعل كان {رسولاً} حال مؤكدة، وإن تعلق بالاسم كان حالاً مؤسسة تفيد العموم؛ أي أرسلناك رسولاً للناس جميعًا، و{حفيظًا} حال من الكاف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأرسلناك} يا محمد {للناس رسولاً} تعلمهم التوحيد وتدلهم على الأدب، فالتوحيد محله البواطن، فلا يرى الفعل إلا من الله، والأدب محله الظواهر فينسب بلسانه النقص إلى نفسه وهواه. وإذا شهد الحق جل جلاله لرسوله بالرسالة أغْنَى عن غيره، {وكفى بالله شهيدًا}. وشهادة الحق له بالمعجزات والواضحات، والبراهين القطعيات، والدلائل السمعيات، فإذا ثبتت رسالته وجب على الناس طاعته، ولذلك قال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}؛ لأنه مُبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى. رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أطَاعَنِي فَقَد أطَاعَ الله، ومَن أحبَني فقَد أحبَ الله» فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى. فنزل: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى} وأعرض {فما أرسلناك عليهم حفيظًا} تَحفَظُ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
الإشارة: كما شهد الحق جل جلاله لرسله بالرسالة، بما أظهر لهم من المعجزات، شهد لأوليائه بالولاية بما منحهم من الكرامات. والمراد بالكرامة: هي تحقيق العرفان، ومعرفة الذوق والوجدان، واستقامة الظواهر والبواطن، وتهذيب الأخلاق وهداية الناس على يديه إلى العليم الخلاق، فهذه الكرامة المعتبرة عند المحققين، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن معرفة الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله؛ لأنهم نور من أنوار الله، وعين من عيون الله، إذا لم يبق فيهم بقية مما سوى الله، أقدامهم عرى قدم رسول الله، {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10] فافهم، والله تعالى أعلم.